قـراءة نـقـديـة وتـحـلـيـلـيـة
في قصيدة (أحاسيس مبعثرة)
للشاعرة / منيرة الغانمي .. بقلم / إبراهيم جعفر .. عضو اتحاد كتاب مصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أولا نص القصيدة :ـ" أحاسيس مبعثرة "
،،،،،
ما بين حنين وأنين ..
أصوغ الآن كلماتي ..
أشتاق لماضٍ جميل تعطّر بحضوره ..
وأرفض بدونه عمري الآتي ..
حيْرة الحب فاقت كل توقعاتي ..
أحبّه وما كنت أعلمه للحب بدايات ..
هو الإحساس بالأمان ..
بدفء المشاعر ..
بصدق اللّسان ..
أراه استبدّ بذاتي ..
حين يمرّ بخاطري ..
استحضر ملامحه ..
ابتسم ..
فيرتسم الفرح معانقا مساءاتي ..
سكن تفاصيل يومي .. وكل الأوقات ..
قاسمني بكائي .. صرخاتي .. ذكرياتي ..
وليته يشاركني فرحي وابتساماتي .
فتزيد به مسرّاتي ..
غادرني والعين قد دَمعَت..
وزادت قوى الشوق بداخلي ..
وتمازجت آلامي بانفعالاتي ..
تخونني العبرات ذات ضعف ..
ليستوقفني تساؤل ..
لماذا كل هذا الألم ؟
لماذا الشعور بالاستياء ؟
أليس بالحب نحقق المعجزات ..
ونتجاوز المستحيلات ؟ !
وتُزهر في ربى العمر الأمنيات..
نردّد الأغنيات فرحا رغم الآهات ..
فالعثرات لا تقتل فينا إرادة الحياة ..
ولكن ..
هل نؤمنُ بذلك حقيقة ..
أم هي مجرّد كلمات ؟ ..
يا لقسوة الكبرياء وقد ارتديناه زيفا ..
والقلب قد أعلن في حسرةٍ انكساراتي ..
طويل سفري إليه ..
وتزيده ثِقلا أنّاتي ..
أكتم عنه ما بداخلي ..
خوفا من مرير الخيبات..
أيّ حزنٍ هذا الذي جمع بيننا ..
رغم شسوع المسافات ..
تُهامسني عنه روحي ..
و في ذات حنين تسألني ..
ولا أملكها الإجابات ..
ولا أرى سوى صمت مرير يقول ..
دعِي عنك الأسى
وحلّقي في السّماوات ..
وعاندي القدر بالبسمات ..
فما خوف المشاعر إلا إيذان ..
بميلاد حبٍّ لا يقبلُ بالنّهايات ..
ـــــــــــــــــــــــــ
الشاعر إبراهيم جعفر
عضو إتحاد كتاب مصر
عضو إتحاد كتاب مصر
ثانياً الدراســـة :ــ
تبدأ الشاعرة (منيرة الغانمي ) قصيدتها بقولها :ـ (مابين حنين وأنين / أصوغ الآن كلماتي/ أشتاق لماضٍ جميل تعطر بحضوره / وأرفض بدونه عُمري الآتي ) حيث نري حيرة جمعت بين الحنين والآنين ، وهذا الاحساس المتناقض كان مصدر الالهام والحافز على الكتابة فقالت : وسط هذا التناقض " أصوغ الآن كلماتي "ومن خلال هذه الكلمات بدأت تكشف عن مكنون ذاتها بكل صدق، فأبلغتنا أنها في شوق لماضٍ .. وصفته بأنه كان جميلا ، ومن مظاهر جماله ، أنها تستروح منه رائحة العطر بمجرد حضوره إلي ذا كرتها . وأمام هذا الزخم لماضيها ، تعلن صراحة رفضها للحياة في القادم من أيامها بدون ذلك الماضي . حيثُ تقول : ـ " وأرفض بدونه عُـمري الآتي" .. ثم تعود إلي حالة الحيرة موضحة ومتهمة أن السبب في حيرتها تجربة حب ، فعلت بها ما لا كانت تتوقعه ، وتعطينا بعض الإشارات التي جعلتها تستكين وتغرق في هذا الحُب فنعترف أنها في ظله أحست بالأمان ، وبدفء المشاعر ، وصدق اللسان... ولنا هنا وقفـة ـ فمن أين حكمت أن اللسان صادق ؟ ومعروف أن اللسان من الجوارح التى لا يعلم صدقها سوى صاحبها أما ألسنة الآخر فلا يمكن معرفة هل صادقة ام لا ؟ حيث اللسان ترجمان النية .. والنية لا يعلمها سوى صاحبها .. وجاء ما ذكرناه .في قولها : ( هو الاحساس بالأمان / بدفء المشاعر/ بصدق اللسان )
ثم تأخذنا وسط هذا المناخ إلي ذاتها وتكشف حقيقة مشاعرها نحو هذا الحبيب ، حيث تقول : ـ ( حين يمر بخاطري / أستحضر ملامحه / ابتسم / فيرتسم الفرح معانقا مساءاتي ) اعتراف لا مواربة فيه بسيطرة حالة الحب عليها تماما لدرجة أنها بمجرد استحضارها لطيفه ترى ملامحه ، فتبتسم وتسرد تفاصيل تتبع هذه الابتسامة تنم عن الشوق والرضا والفرح الذي يُعانق لياليها الساهرة وأن هذا الطيف لا يتركها حتى في التفاصيل البسيطة اليومية ، وتعمق الصورة بقولها ( وكل الأوقات) . وتسوق بعض المبررات لحالتها تلك . فتشير إلي أنه كان يقاسمها البكاء ،والصراخات ، والذكريات ،ونقرأ ذلك في قولها : ـ ( سكن تفاصيل يومي.. وكل الأوقات / قاسمني بكائي .. صرخاتي .. ذكرياتي )
وتستمر في سرد مشاعرها واحاسيسها ... تعالى نقرأ قولها : ـ ( وليتهُ يُشاركني فرحي وابتساماتي/ فتزيد به مسراتي )
وسط هذا الجو المفعم بالمشاعر الجياشة والذكريات الجميلة تصدمنا بقولها : ـ ( غادرني .. والعين قد دمعت ) ولا ندري ما الأسباب التي أدت إلي الهجر والفراق،والذي كان من توابعه مرارة وحزن وقسوة علي مشاعرها المرهفة ، ونلمح بعض الضعف في تصوير المشهد فكان بإمكانها أن تأتي بصورة أقوى من قولها والعين قد دمعت لتناسب الفاجعة التى حدثت ، وتوازى مشاعرها التى صدمت وخاصة أنها كانت قصة حب كبيرة .. ثم تستطرد قائلةً :ـ (وزادت قوى الشوق بداخلي/ وتمازجت ألامي بانفعالاتي ) وأرى أن التعبير بالقوة عن الشوق غير متناسق لأن الأشواق من المعنويات والقوة من المحسوسات التي نشاهدها في الحياة المعاشة .. وهناك من الكلمات التي تعبر عن الشوق وحدته وحرارته بما يلائم رسم صورة أكثر رقة ورومانسية .. ونمضي مع الشاعرة فنجدها تقول :ـ (تخونني العبرات ذات ضعف / ليستوقفني تساؤل).. حيث تكشف لنا أنها وسط هذا المناخ المأزوم بالهجر والفراق المفاجىء من قبل حبيبها ، مازالت تحن إليه وتتمنى عودته بدليل أن العبرات تنساب من الجفون على الخدود خاصة في لحظات الضعف الإنساني.. ومغالبة الشوق لعواطفها .ونسأل هل يستحق هذا الحبيب الذي غادرها فجأة كل هذا الحب ..؟ اللهم إلا كان هذا الحبيب هو الوطن ذاته .. أو كانت هناك قوة قاهرة لكليهما معا . أدت إلي فراقهما .. كالموت مثلا .. ربما..
ثم نري الشاعرة تنقلنا نقلةً مدهشة ، واستيقظت فجأة من هذه المأساة ، وتحررت من الضعف من خلال سؤال بداخلها .. وهو ما يعرف في النقد بالمنولج الداخلي أو بحديث النفس ــ حيث تقول : ـ ( ليستوقفني تساؤل / لماذا كل هذا الألم ؟ لماذا الشعور بالاستياء ؟ / أليس بالحب نحقق المعجزات / ونتجاوز المستحيلات ؟ /وتزهر في ربى العُمر الأُمنيات / نردد الأُغنيات فرحاً رغم الآهات / فالعثرات لا تقتلُ فينا إرادة الحياه )
هنا الشاعرة في أوج قمة إرادتها ، وانتصارها على ضعفها والتخلص من حزنها لدرجة أنها راحت تطرح تصورها للقادم من الأيام ، بعد أن أيقظها السؤال أو التساؤل الذي هزها وعنفها ، نلمح ذلك في قولها :ـ (لماذا كل هذا الألم ؟ .إلي آخر هذا المقطع .. وحقا جاءت الشاعرة بصور كلها إشراق وأمل وتفاؤل ... حتى نصل لقولها " فالعثراتُ لا تقتلُ فينا إرادة الحياة " حيث هنا تبدو الموعظة فجة ،والحكمة واضحة ، والشعر ليس كذلك .. علاوة علي أن الصور التي سبقت .. فيها الكفاية ووردت بأسلوب شاعري فيه عذوبة .. كما كان الأولي أن تترك للقارىء المساحة ،كي يستخلص بنفسه الموعظة والحكمة التي أصرت أن تقحمها اقحاماً لا مبرر له ، مما جعل في جسد القصيدة ترهل كانت في غني عنه ..
والعجيب أنها بعد أن رسمت صورة الغد المشرق وجعلتنا نستشرف معها هذا الغد الجميل بما رسمته من صور بديعة .. حعلتنا نصدق أنها اجتازت أزمتها . إذ بها ترتد فجأة وكأنها تأخنا من الشرق للغرب وتنقلنا من الثلج إلي النار وتقفذ بنا من السماء للأرض .. وذلك من خلال قولها :ــ ( ولكن .. هل نؤمن بذلك حقاً / أم هي مجرد كلمات ؟ / يا لقسوة الكبرياء وقد ارتديناه ُ زيفاً / والقلبُ قد أعلن في حسرةٍ انكساراتي / طويلٌ سفري إليه / وتزيده ثقـلا آناتي / أكتم عنه ما بداخلي / خوفاً من مرير الخيباتِ )
هذا المقطع ..كشفت فيه الشاعرة عن أنها لم تكن صادقة في اعلان انتصارها وأنها
لم تتخلص من الإستكانة للحزن والضعف .. وأنه مازلت تستسلم للألم وكل ما رسمته من صور الغد المشرق ما كان سوى كذب وخداع أوقعها فيه الكبرياء .. فراحت تمتهن وتحقر كل صور الأمل فتصفـه.، بأنه ":مجرد كلمات .". ولكى تبعد عنها هذا التناقض والارتداد نراها تتوارى خلف الكبرياء.. والأعجب أنها راحت تذم الكبرياء نفسه ، بقولها :ـ ( يا لقسوة الكبرياء وقد ارتديناه زيفاً /والقلب قد أعلن في حسرةٍ انكسارتي ) معلنة أن هذا الكبرياء ..ماهو سوى ثوب من الزيف والكذب،،
وأن الذى رفض هذا الكذب .. هوقلبها.. الذي يسكنه الحب للقالي البعيد الذى غادر حبها
ولأن للقلب سطوته فقد ساعدها فى الإقرار بتمكن هذا الحب منها وفشل كل محاولات التصنع بالشفاء منه ،
ثم تعود للحديث عن واقعها وعينها علي ماحدث لها مع هذا الحبيب ، وتكشف عن حُزنٍ ثقيل يسيطر عليها وأن حبيبها بات يحيا ويعيش بعيدا عنها .. وأرى ان هذا البعد يتحمل وجهان ، الأول البعد المكاني والثاني البعد الزماني المعنوي والاغتراب النفسي ..اقرأ قولها : ـ (أي حُزن هذا الذي جمع بيننا / رغم شسوع المسافات )... وأمام هذا البون الشاسع من المسافات سواء كانت مكانية أو زمانية
أو بسبب قضايا وخلافات ادت إلي اتساع الفجوة وازدياد الجفوة تلجأ الشاعرة إلي طقس من الهمس الروحي الذي من خلاله نعرف أن روحها دائمة السؤال عن هذا الغائب، وتعترف بأنها للأسف لا تملك الإجابات علي تلك الأسئلةالدائمة من الروح، فتلوذ بالصمت ولكنه الصمت المرير.. حيث تقول :ـ ( تُهامسني عنه روحي /وفي ذات حنين تسألني/ ولا أملكها الإجاباتِ / ولا أرى سوى صمت مرير يقول ).. فماذا قال لها صمتها المرير ؟ نقرأ قولها :ـ (دعي عنك الأسى /وحلقي في السماواتِ / وعاندي القدر بالبسماتِ)..
واخيرا نجد إفاقة أخيرة ويقظة من الشاعرة لكى تترك الأسى وترجم الأحزان بداخلها وتبتعد بقدر ما تستطيع ..حتي لو حلقت في السماوات ..ليسهل عليها التخلص من كل مافعلته تجربة الحب المريرة
ونلاحظ أن اليقظة هنا كانت قوية وعنيفة لدرجة أن حرضتها حتى علي معاندة القدر.. ولا يذهب أحد إلي تفسير خاطىء للصورة هنا .لأن القدر الذى تعنية هو الأحداث التي شملتها التجربة كلها .والذى كان سبباً في كل تلك الأحزان ..
وتعانده بماذا ؟ .بالبسمات .. وهى مفارقة جميلة وصورة طريفة
ثم نلمح الشاعرة تستلُ من خوفها ، وترددها ، قوة ، حيث تقول:، ( فما خوف المشاعرإلا إيذان / بميلاد حب لا يقبل بالنهايات )
وبذلك أنهت الشاعرة ، قصيدتها الرائعة ، بالانتصار للحب، ولكنه الحب الناضج الذي لا يعرف النهايات الحزينة
وعموما القصيدة رائعة وحمالة أوجه فما قلناه هنا على أنها قصيدة عاطفية ..يمكننا قوله على أنه قصيدة وطنية وان الحبيب على العموم من أول مقطع لآخر مقطع .. هو وطن الشاعرةاو أى وطن تعرض للإعتصاب مما جعل الشاعرة تخاطبه على أنه حبيب غادرها وهجرها وبتعاكس الأدوار وتتضح الفكرة وتظهرالمعاني جلية .. ويكون البناء الفني بارعاً ..
وأخيرا أهنىْ الشاعرة على النص متمنياً لها مزيدا من النجاح والتوفيق .. مع أرق تحياتي .....
*********************************
بقـلـم / إبـراهـيـم جـعـفـر
بقـلـم / إبـراهـيـم جـعـفـر
********************************
عضو اتحاد كتاب مصر
عضو اتحاد كتاب مصر