الطبيب
رقد على سريره داخل المركز الطبي الحكومي شاخصاً ببصره نحو سقف الغرفة يجتر ذكريات الماضي وما اعتوره من أحزان نغصت عليه حياته فأوهنت قلبه الذي بين جنبيه .
ها هو الآن يرقد وحيداً في هذا المركز الطبي الحكومي الخالِ تماماً من العناية والعلاج معاً . ولا يوجد معه سوى بنته الوحيدة خريجة الجامعة هي التي تقوم بخدمته ورعايته . أما باقي أبناءه الذكور فقد شتت لقمة العيش حبل اعتصامهم وذهب كل منهم يبحث عن لقمة عيشه في أطراف الكنانة .. حتى أنهم لم يلبوا اتصاله بهم واخبارهم أنه مريض بالقلب ويحتاج لإجراء عملية قلب مفتوح ومن ثم تغيير الصمام الأيمن للقلب ..
لقد أسودت الدنيا في وجهه . وأطبقت السماء على الأرض وهو بينهما يتنفس من ثقب إبرة ..ماذا يفعل بقلبه المعتل .. ثم ساد الغرفة صمت مطبق وكأن جدرانها هي الأخرى معتلة حانقة وغاضبة من أمراض العباد .
عند ذلك كسر صمت الغرفة صوت أقدام تمشي في الممر .فإذا بطبيب الحالة يبلغه أنه لابد له من إجراء العملية بأقصى سرعة .وإلا فإن حالته سوف تسوء جداً وليس أمامه سوى انتظار المنون فاغراً فاه .
استمع لكلام الطبيب وحدث نفسه ليته يموت ويرتاح من ضربات هذه الدنيا الكالحة ثم شبك بيديه على صدره وكأنه قد استسلم لقدره . عندها جاءت ابنته وهي تحمل في يدها صحيفة وفي وجهها البشر والسرور ثم قالت له ... انظر يا أبي هذا مركز طبي متخصص في القاهرة الكبرى يجري العمليات لمن هم بمثل حالتك بدفع 25% من قيمة العملية والباقي على أقساط شهرية مريحة .
عند ذلك تجدد الأمل لديه وقد تنفس الكرب قليلاً إذن فسوف يدفع مبلغاً قدره ثلاثون ألف جنيه . ثم ارتدت الغصة ثانيا في حلقة وهو ينظر لبنيته . كيف لنا تدبير هذا المبلغ والحال كما تعرفين..
فأمسكت بيده بين راحتيها ثم انكبت عليها تقبلها وهي تقول لا عليك سوف أقوم ببيع مصوغاتي الذهبية وأرهن محل بيع الغلال خاصتنا والأهم من كل هذا هو صحتك التي لا تقدر بثمن ... عندها ندت منه قطرات من دموعه تنساب على وجنتيه الزابلتين ولسان حاله يقول . لله الأمر من قبل ومن بعد .
كان الطبيب الجراح يجلس في مكتبه عندما أحضرت له كشوف بقوائم عمليات الشهر .. ولما نظر إليها لفت انتباهه اسم (سليم عويس ابو راشد ).. فاضجع على كرسيه الدوار الوثير وغاب بذكرياته لأيام الطفولة عندما أرسلته أمه لهذا الرجل صاحب محل الغلال ومعه قرطها الذهبي كي ترهنه ويبتاع منه بعض الطحين وغيرها من حاجيات المعيشة .. لم يسلُ نظرة هذا الرجل وحنوه عليه عندما ربت على كتفيه وذهب به لمحل الجزارة والفكهاني وشرى لهم ما يكفيهم من نعم الحياة وأعاد لهم القرط الذهبي . كما وأنه أمر أحد الصبيان بحمل جوال طحين إلى منزلهم .. ولم يكتفِ بذلك بل تكفل لهم بتعيين راتب شهري نفقة منه طيلة فترة مكوثهم بجواره في الحي وقبل فترة انتقالهم ومغادرتهم إلى القاهرة الكبرى للإقامة بجوار خالهم الساكن هناك .
عند ذلك هاجت به الذكريات . وشعر أن عليه دين لابد وأن يرده وها قد أتى موعد السداد .. فنهض واقفاً من فوره وهو يمشي بخطوات حثيثة نحو غرفة الرجل . نسي أنه أكبر جراحي المركز الطبي وهو من يشار إليه بالبنان بسبب نبوغه في تخصصه إلى أن وصل لغرفة الرجل .
فاستأذن بالدخول ووقف أمامه يرمقه بعينه وهو مطروح على فراشه لا يدري ما الله فاعل به وابنته إلى جواره تلطف من كربه وتروض وحش المرض الذي ينهش جسمه الضئيل .
عند ذلك أجرى عليه الكشف الدوري ولم ينبس بكلمة وكأن الشيخ لم يعرفه . لم تتغير كثيراً ملامح الشيخ ما زال بنفس طيبته ووجه الهادئ ونسائم البشر والرحمة تعلو محياه .. ثم طمئن الشيخ على حالته وأبلغهم أن إجراء العملية سوف يكون غداً بمشيئة الله . وقد كان من المقرر أن تكون بعد نحو شهر من الآن . لقد آثر الطبيب تعجيل موعد اجراء العملية إكراما منه لهذا الشيخ الجليل .
أدخل الرجل غرفة العمليات وتم إجراء العملية بنجاح . وها قد تماثل الشيخ للشفاء و تورد وجهه وجرت الدماء في عروقه بعد ما كان وجهه مصفراً شاحباً . عندها وصل الطبيب كعادته يتفقد مرضاه وفي يده مظروف قد وضع به شيك بمبلغ مائتي ألف جنيه . قدمه للشيخ ورجاه أن لا يفتح المظروف إلا بعد وصوله للبيت فقد شفي الشيخ تماماً وحان موعد مغادرته المركز الطبي . أما قيمة العملية فقد أخبرهم أنه تم دفعها بالكامل ....
- ثم ابتسم برفق وهو يرمق الشيخ .. أما عرفتني عم (سليم)
أنا (نشأت أمين دياب) كنت جاركم أنا وأمي وأخوتي منذ سنوات عدة . فحدجه الشيخ بعينه وعرفه بعد طول تذكر ... يا لهذه الدنيا وما تفعله أأنت أنت نشأت . ما شاء الله عليك يا بني أصبحت جراحا مرموقاً .. هل تسمح لي أن أقبل جبينك .
فرمقه الطبيب بلطف وقد ندت دمعة من عينه ..
بل أنا من سوف أقبل يديك وانكب على يدي الشيخ يقبلهما والشيخ يربت على كتفيه ويحدث نفسه ولسان حاله يقول .
صنائع المعروف تقي مصارع السوء
بقلم
ابو عاشور محمود