الأربعاء، 15 فبراير 2017

قصة قصيرة " مدرس الرسم " بقلم الأستاذ \ مالك عبد القادر المهداوي

قصة قصيرة
مدرس الرسم
***********
بِلَا أَسَمِّ غَرِيب الْأَطْوَارِ مُخْتَلِفًا عَنِ الْجَمِيعِ, مُخْتَلِفَا فِي اِرْتِدَاء الْمَلَاَبِسِ عَنِ الْبَقِّيَّةِ مِنَ الْمُدَرِّسِينَ الَّذِينَ يَرْتَدُونَ الْبَدْلَاتُ الرَّسْمِيَّةُ وَرَبْطَاتُ الْعُنُقِ الزَّاهِيَةِ وَالْأنِيقَةِ , شَّعْرَه الطَّوِيلَ وتَسْرِيحَة الشَّعْرِ الْغَرِيبَةِ, لَوَّنَهُ أَبيضُ عَيْنَانِ زرقاوان تَظْهَرَانِّ خَلْفَ زِجَاج النَّظَّارَةِ الطِّبِّيَّةِ, مُتَمَيِّزًا عَنِ الآخرين فِي مَدِينَة صَغِيرَةٍ مُحَافِظَةٍ يَغْلِبَ عَلَيهَا طَابَع الْعَيْبِ وَالنَّقْدِ, كَانَ يَمْثِلَ الْحَدَاثَةُ لَهُ شِبْهُ كَبِير بِمُمَثِّلِي السِّينَمَا الْأجَانِبِ لِباسَةٍ بَسيطٍ يَخْتَارَ التَّنَاسُقُ فِي الْأَلْوَانِ وَيَجْلُبُ الْاِنْتِبَاهُ لِمِنْ يراه فِي الْاِخْتِيَارَ, أَثَارَ إِعْجَابُ شَبَاب الْمَدِينَةِ, كَيْفَ لَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الآخرين, أَنّهُ فَنَّانِ وَرُسَّامٌ, هُوَ مُدَرِّسُ الرَّسْمِ الْقَادِمِ مِنَ الْعَاصِمَةِ.
قُدِمَ أَوَرَاقُ نُقَلِهِ إِلَى مُدِيرِ الْمَدْرَسَةِ وَسَكَنٍ فِي بَيْتِ الْمُدَرِّسِينَ الْوَافِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ, مُبْعَدَا بِسَبَبِ السِّيَاسَةِ وَتَبَدَّلَ وَضْعُ الْبِلَادِ مِنَ الْمَلِكِيَّةِ إِلَى الْجُمْهُورِيَّةِ, يُقَالُ أَنّهُ سَلِيلَ أَسَرَّةٍ تَرْبِطَهَا قَرَابَةْ بِالْمُلَّكِ الْمَخْلُوعِ مِنْ عُرُشِهِ, تَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ بِعِيد تَجَدُّ فِيهِ الْغَرابَة تَقْتَرِب وتَدنًّو إِلَيْهِ تَجَدُّ فِيهِ الْإِثَارَةُ وَالرَّتابَةَ وَالتَّرَفَ وَالْكِبْرِيَاءَ, تَعَجُّبٌ بِهِ وَبِأُسْلوبِ حَيَّاتِهِ , بَسيط غَيْرِ مُبَالِي لِلتَّقَالِيدِ وَالْأَعْرَاف وَالْقُيُود, غَزِير الثَّقَافَةِ, يَعْرُفَ مَدَارِس الرَّسْمِ الْقَدِيمَة وَالْحَديثَة, يَعْرُفُ الرُّسَّامَيْن وَاللَّوْحَات الْعَالَمِيَّة الْمُهِمَّة. 
جُذِبَت فَطُرَّةُ الْفَنَّانِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا , لمَنْظَرُ الْمَدِينَةِ و الْبَسَاتِينَ وَالنَّخِيلَ الَّتِي تَحِيطُ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ هِي عِبَارَةٌ عَنْ وَاحَةِ جَمِيلَةٍ, تُشَبِّهَ الْجَنَّةُ بِوَصْفِهَا, يَحْمِلَ أَدَوَاتُ الرَّسْمِ وَيَتَّخِذُ زَاوِيَةُ يَخْتَارُهَا لِيَرْسُمَ السُّوقُ وَالنَّاسُ وَالْبَسَاتِينُ عَلَى طَبِيعَتِهَا, فِي بَادِئِ الْأَمَرِّ كَانَ يَتَعَرَّضُ لِلْفُكَاهَةِ وَالتَّنَدَّرِ وَالنَّقْد , غَرِيب تَصَرُّفِهُ عَلَى أهْلِ الْمَدِينَةِ الْبسطَاء , وَبَعْدَ مُدَّةٍ قَصِيرَة تَغْيِير النَّقْد إِلَى إِعْجَابِ بِفَنِّهِ وَإِبْدَاعِهِ , يَرْسُمَ الْوُجُوهُ الْبَائِسَةُ وَيَحُسُّ بِتَعَابِيرِهَا وَفِي مِهْرَجَان مَدْرَسَتِهُ وَجَدُوهُ مُنْزَوِيًَ وَتارِكَاً الْمِهْرَجَانِ , لِقَدْ وُجِدَ ضَالَّتُهُ فِي وَجْه رَجُلٍِ كَهَلْ هُوَ وَالِدُ أحَد الطُّلَاَّب لِيَرْسُمُهُ مِنْ بِعِيدٍ , هُوَ يَقْتَنِص اللّقطةُ الَّتِي تُعَجِّبَهُ مِثْلُ عَدَسَةِ ألَةَ التَّصْوِير وَيَشْكُلُهَا عَلَى ضَوْءِ خَيَالِهِ , أمتلاْة غُرْفَة سَكَنِهِ بِاللَّوْحَات الَّتِي يَرْسُمَهَا وَكَلَمَّا ذَهَبَ إِلَى أهْلِهِ فِي أجازة يَحْمِلُهَا مَعهُ أَنّهُ يَعُدَّ لَوْحَاتُ لِلْكالِيَرِي الَّذِي يُنَوِّيَ إقَامَتُهُ فِي الْعَاصِمَةِ.
لَهُ الْفُضُلُ فِي اِكْتِشَاف الْمَوَاهِبِ وَتَخْرُجُ مَنُّ بَيْن يَدِيَّهُ الْفَنّانِينَ وَالرُّسَّامَيْنِ وَالنَّحَّاتِينَ مِنْ أَبِنَاءِ الْمَدِينَةِ وَأَثَّرَ بِشَكْلِ كَبِيرٍ عَلَى حَرَكَة الْفَنِّ فِيهَا , فَهُوَ شُعْلَةُ مَنْ نشَاط تَتَّقِدُ لِتَنْثُرَ جِمَالُ الْفَنِّ بَيْنَ شَبَاب الْمَدِينَةِ لِيَتْرُكُ بَصْمَاتٌ لَا يَمُّكُنَّ أَنْ تَنْسَى. 
تَزْدَحِمُ الْأَفْكَارُ وَتُكَادُ تُؤَرِّقُهُ كَأَنّهَا تُلَازِمَ خَيَالُهُ فِي الصَّحْوِ وَالْمَنَامِ يَخْرُجُ دَفْتَر مُذَكَّرَاتُهِ الصَّغِير وَيَمْسُكُ الْقَلَمُ لِيَسْجُل الْفِكْرَة لِيَصْنَع مِنهَا مَوْضُوع لِرَسْمِهِ الْقَادِمِ أَنّهُ دَقيقٌ فِي التَّخْطِيطِ بِصُورَة مُنْقَطِعَة النَّظِير قَرَّرَ أَنْ يَعْمَلَ رحلة الى الْبَرِّيَّةَ بَعيدًاً عَنْ صَخَب الْمَدِينَة وَالنَّاس بَعْدَ أَنْ كَانَ عَائِدَاً مَنِ الْإجَازَةَ وَبِذَلِكَ الْبَاصَ الْخَشَبِيَّ يُمِرُّ بِالْقُرَى وَالْأَرْيَاف وَالْمُزَارِع وَالْبَسَاتِين كَانَ فَصْلُ الرَّبِيعِ عَلَى جَانِبَيْ الطَّرِيقِ يَطْرَحُ أَلْوَانُهُ المكتسية بِاللَّوْنِ الْأَخْضَرِ عَلَى مُدّ الْبَصَر , لقد هَالَّ الْمَنْظَرُ مخيلتةُ وَأَسْتَجْمِع بنَاتَ أَفَكارَةُ وقرر عِنْدَ وُصُولِهُ الى دَار سَكَنِ الْمُدَرِّسِينَ أَنْ يَخْرُج مِنَ الدَّوَامِ فِي الْيَوْم التَّالِي بَعْدَ أَخَذَ مُوَافَقَة الْمُدِير عَلَى إجَازَة زَمَنِيَّهُ, وفِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ جَمعَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ أَلَيِهِ أَوْيَسْتَطِيعُ حَمَلُهُ مَنْ أَدَوَاتُ الرَّسْمِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْأَقْلَاَمِ وَاللَّوْحَاتِ الَّتِي لَمْ يَرْسُمْ عَلَيهَا بَعْد , وَوُضِعَ الْأَشْيَاءَ الصَّغِيرَة فِي حَقِيبَة الظُّهْرِ الْعَسْكَرِيَّةِ الَّتِي تَحَمُّلٌ عَلَى الظُّهْر لِقَدْ كَانَتْ غَرِيبَةً بَعْضُ الشئ عَلَى رَجُلٍ مُدُنَيْ أَنْ يَسْتَخْدِمَ هَذِهِ الْحَقِيبَة وَكَذَلِكَ جَهَزَ الْكُرْسِيّ الصَّغِير الَّذِي يَنْطَوِي لِسُهولَة حَمَلِهِ مَعَ مُسْنَد اللَّوْحَات الْخَشَبِيَّ وَعُلَب مَنِ الطّعَامَ الْجَاهِزَةَ, وَاِسْتَرْخَى عَلَى سَرِيرِهِ لِكَيْ يَنَامَ عَلَى مَضَضٍ وَأُغْلِقَ عَيْنِيُّهُ وَنَامَ .
اِسْتَيْقَظَ صَباحَاً وَذَهَبٌ إِلَى دَوَام الْمَدْرَسَة وَطِلَب مَنِ الْمُدِير إجَازَة لِيَذْهَب إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَوَافَقَ الْمُدِيرُ عَلَى طِلَبِهِ , وَبَعْدهَا تَوَجُّهٌ إِلَى مَوْقِف عَرَبَاتٍ الَّتِي تَجُرَّهَا الْخُيُولُ( الرَّبْلَ)أَتَفِقُ مَعَ العرَّبنجَي عَلَى أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى مَسَافَة بَعيدَةٍ عَنِ الْمَدِينَةِالى مِنْطَقَة جَنُوبِ الْمَدِينَةِ وَهِي مِنْطَقَةُ مَفْتُوحَةُ تَتَخَلَّلَهَا هِضَابُ وَسَهُولُ وَكَثِبَانِ رَمْلَيْهِ , تَحَرَّكَتْ الْعَرَبَةُ بَعْدَ حَمَلِ الامتعة متهادية وَمُوسِيقَى حَوَافِرِ الْخَيْلِ الَّتِي تَقْرَعَ شَارِعُ الاسفلت بِحَذْوَاتِهَا الَّتِي كَانَتْ مَنُّ الْحَديدِ كَيْ تُحَافِظَ عَلَى حَوَافِرِ الْخَيْلِ مِنَ الْاِحْتِكَاكِ وَالسَّوْفَانِ وَهُنَالِكَ عُمَّالَ يَصْنَعُونَ وَيَرْكَبُونَ الْحَوَافِرَ الحديديه وَيَسْمُوَنَّ صَاحِبٌ هَذِهِ المهنه ( نَعِلَبَنْدُ) , وَيَجِدُ فِي السِّيَرِ وَلُغَة العربنجي لِلتَّفَاهُمِ مَعَ الْحِصَانِ الَّتِي يَعْرُفَهَا , لِحَثَّهَا عَلَى السِّيَرِ مَاسِكَاً المَقُودُ لتَوْجِيهِهَا بِوَاسِطَةٍ أَشَرْطَة جِلَدَيْهِ يَمْسُكَهَا بَيْدَةُ وَالسَّوْطُ الَّذِي نَادِرًا مَا يستخدمة وَأَسْتَأْذِنُ مِنَ الْأُسْتَاذ لِكَيْ يَسْمَعَهُ مايحفظ مِنْ أَغَانِي الْمَقَامِ والبسته, فَأُذْنٌ لَهُ الاستاذ بَلْ طَرَب لِمَا يغنى مِنْ أَبِيَّاتِ الشَّعْرِ وَالأَجَادَتْهُ لِلطَّرَبِ وَالْفَنِّ اِنْتَهَى الْمُسَيِّرُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُعَبَّدِ وَبَدَأَ الْمُسَيِّرُ عَلَى الطَّرِيقِ التُّرَابِيِّ وَالْبُيُوتِ تَمْر بِهَا الْعَرَبَةَ وَهِي عَلَى جَانِبَيْ الطَّرِيقِ وَبَسَاتِين النَّخِيلِ الْبَاسِقَات تَخْبَأُ الشَّمْسُ تَحْتَ أَغْصَانِهَا تَارَةَ تَخَرُّج وَتَارَةَ أُخْرَى تُخْتَبَأْ بَيْنَ أَحِصَانِ سَعَف النَّخِيلِ وَالْبُيُوتِ مُتَنَاثِرَةُ هُنَا وَهُنَاكَ.. لِقَدْ اُسْتُغْرِقَ وَقْتُ طَوِيلٍ فِي الْمُسَيِّرِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَوُصَلٍ إِلَى مَرْحَلَةٍ لَمْ يَعِدْ يرى النَّخِيلَ وَالْقُرَى الْمُحِيطَةَ بِالْمَدِينَة لِقَدْ اِنْقَطَعَتْ الطُّرُقُ وَبَدَأَت الْعَرَبَةُ تُسَيِّرُ عَلَى غَيْرُ هُدَى بِاِتِّجَاهِ نَّخَلةٍِ وَحَيْدَةِ وَسَطِ الْبَرِّيَّةِ وَهُنَاكَ إِلَى بِعِيدِ زَيْتونَةِ وَسَطِ الْحَشَائِشِ الْخَضْرَاءِ تُوَقَّفَ العرَّبنجَي عِنْدَ هَذِهِ النّخلة لِكَيْ تَعْتَبِرَ مَثَابَةَ وَاضِحَةً حَتَّى لَا يُتَيَّهْ فِي الْبَرِّيَّة تَرْجَلَ الإثنان مِنَ الْعَرَبَة وَقَالَ الْأُسْتَاذُ إِلَى للعرَّبنجَي عُدّ أَنْتَ أَدْرَاجُكَ وَأَنْتَظِرُكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ وَفِي هَذَا الْمَكَانَ بَعْدَ أَنْ اِغْدَقْ عَلَيهِ بِالْعَطَاء.
حَمْل مُدَرِّسِ الرَّسْمِ الْحَقِيبَةَ عَلَى ظُهْرِهِ هِي وَمُسْنَدُ اللَّوْحَاتِ وَهُمْ بِالْمُسَيِّرِ إِلَى الْإمَامِ وَالْعَرَبَةِ عَادَّتْ أَدرَاجُهَا, وَسَارَّا بِاِتِّجَاهَيْنِ مُتَعاكِسِينَ حَتَّى اِبْتَعَدْتِ الْعَرَبَةَ وَلَمْ تَكُدْ تُرى مَنِّهَا غَيْرِ سَرابَاً أسْوَدَاً, وَالْأُسْتَاذُ يَغُورُ فِي أَعْمَاقِ الْبَرِّيَّةِ الْوَاسِعَةِ وَوُصَلٍ إِلَى جَدْوَلِ صَغِيرِ وَمَاءهُ جَمِيلِ شَفَّافِ يَخْتَرِقَ الْوَاحَةُ الْخَضْرَاءُ وَتَحْتَضِنُهُ وَرَوْدُ الْأُقْحُوَانِ الْبَيْضَاءِ لِتَجْعَلُ مِنَ اللُوِّنَ الْأَبْيَض لَوْحَة فَنَّيْهِ جَمِيلَةَ تَتَخَلَّلَهَا أَلْوَانُ الْوُرُودِ الْأُخْرَى, وَهُنَاكَ الى بِعِيدِ وَبَيْنِ الاعشاب الْخَضْرَاءَ شقائق النُّعْمَانِ بتَجْمَعُهَا فِي مَكَانِ وَاحِدٍ أَوْ أُمَّاكُنَّ مُتَعَدِّدُهُ تبدو كَأَنّهَا لَوْحَةَ حَمْرَاءَ جَمِيلَةَ , وَنَسَمَاتِ الْهَوَاءِ الْبَارِدَةِ تَهُبُّ و تُدَاعِبَ أَنْفُهُ وَهُوَ يَدُورَ حَوْلُ نَفْسهُ كَالْْمَجْنُونِ ويرى الْأُفُقَ خَطٌّ أَسُودٌ وَهْمَيْ الَّذِي يُفَصَّلْ بَيْنُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ تَتَخَلَّلُهَا الْهِضَابُ الصَّغِيرَةُ المكتسية بِاللَّوْنِ الأَخُضَرٌ , الْأَرْضُ لَوَّنَهَا أَخُضَرٌ و السَّمَاءَ لَوَّنَهَا أَزُرَّقٌ و هُنَاكَ بَعْضُ مِنَ الْغُيُومِ الرُّكامِيَّةِ الْبَيْضَاءِ عَلَى شَكْلِ نُتَفِ مِنَ الْقُطْن تُزَيِّنُ كَبِدُ السَّمَاء أَحُسُّ بلإنتشاء لِأَنّهُ يَتَمَتَّعُ بِهَذَا الْجِمَالَ مُنْفَرِدًا وَيَدُورَ حَوْلُ نَفْسهُ تَارَةَ وَيَرْقُصُ تَارَةَ أُخْرَى وَيَرْتَمِيَ بَيْنَ الْحَشَائِشِ لَمْ تَسَعْهُ الْفَرِحَةُ بَلْ أَصْبَحَ يَرْكُضُ الى هُنَا وَالَى هُنَاكَ مِثْلُ عَصْفُورِ هَرِبَ مِنْ قَفَصهِ أَوْ سَجِينٍ أَفُرَجٍ عَنهُ لِلتَّوِّ أَحُسَّ أَنّهُ حُرٌّ بِلَا قُيُودِ وَالسُّكُونِ يَلُفُّ الْمَكَانُ حَتَّى أَنّهُ يَسْمَعَ طَنِينٌ فِي أُذْنَيْهِ أَوْ يَسْمَعَ صَفِيرُ الرِّيَاحُ الَّتِي تَهُبُّ بَيْنَ الْحَيْنِوَالْآخِرِ, لِقَدْ هَرِبَ مِنْ ضَوْضَاءِ الْمَدِينَةِ وَتَلْوَثُ الْهَوَاءُ فَهُوَ يَشَمُّ هَوَاء عَذَبَا عَبِقًا وَبِكِلْتَا مَنْخَرِيَّهُ لِيَمْلَأَ صَدْرُهُ بِنَسِيمِ الْهَوَاءِ النَّقِيِّ الَّذِي يُشْفِيَ الْعَلِيلُ لَمْ يَكِنْ يَحْلَمُ بِهِ وَأَنْ يَبْتَعِدَ عَنِ النَّاس وَحَيْدَاً مُنْفَرِدَاً أَخَذَ يَكْلِمَ نَفْسهُ بِصَوْتِ عَالِيٍّ وَيُصَيِّحُ فَيَأْتِيَ الصَّدَى إِلَيْهِ وَيَقْطَعَ السُّكُونُ صُوِّتَ دِيكُ الدّرَاجِ الَّذِي يَبْحَثُ عَنِ الْأُنْثَى وَصَوْتِ الْقُنْبُرَةِ وَطُيُورِ أُخْرَى.
حِينَ اُسْتُنْفِذَ الْفَرِحَةُ وجَاءَ وَقْتُ الْعَمَلِ أَعُدُّ نَفْسهُ لِيَرْسُمُ , وَأُخِذَتْ الْأَفْكَارُتَتَقَاطَرُ فِي رَأْسِهِ لبُرْهَة لِيَرْسُمُهَا, وَضُعَ اللَّوْحَةُ عَلَى مُسْنَدِهَا وَأُخْرِجَ عُدَّةُ الرَّسْمِ مِنَ الْحَقِيبَةِ وَبَدَأَ يَخْلِطَ الْأَلْوَانُ وَيَضْرِبُ الْفُرْشَاةُ بِهَا ثُمَّ يَطْرُقُ عَلَى اللَّوْحَةِ لِيَرْسُمُ وَأَخَذَ مِنهُ الْعَمَلَ وَقَتَا طَوِيلَا وَالشَّمْسُ تَنْزَلُ الى الزَّوَالَ مَائِلَةٌ وَهُوَ لَا يَدْرِي ومُنْدَمِج فِي عَمَلهُ وَأَشِعَّة الشَّمْسِ الْجَمِيلَةِ تُعَانِقُ رُسُومُهُ وَخُطُوطَهُ حَتَّى بَدَتْ الشَّمْسُ تُرِيدُ أَنْ تُعَانِقَ الْأُفُقُ لِقَدْ نُسِّيَ الْمَوْعِدُ وَنَسْي كُلَّ شئ إِنّهُ هَوَس الْفَنِّ وَالْجِمَالِ وَالرَّوْعَةِ هُبِطَتْ الشَّمْسُ وَبَدَتْ صَفْرَاءُ فَأَعْجَبَهُ الْغُرُوبُ و لَوْنَهَا الَّذِي يَمْيَلُ إِلَى لَوْن أَصْفِرَ بِهَيْجٍ وَهُوَ يَتَأَمَّلُ هَذِهِ اللَّحَظَةَالْبَسيطَةَ مِنَ الْوَقْتِ الَّتِي لَا تَتَجَاوَزُ عَشَّرَهُ دَقَائِق بِالْكادِ دَخِلَتْ الشَّمْسُ فِي مَخْدَعِهَا وَبَدَأَتْ الظَّلِمَةُ تُلَوِّحُ بِالسَّوَادِ مِنْ جِهَة الشُّرْقِ وَتَلُفُّ الْعتمةُ أَرَجَاء الْمَكَانِ.
هُنَا بَدَأَ اللَّيْلُ بِالدُّخُولِ وبِدُخُولِهِ دَخْل الْخُوَّفِ وَالْوَجَلِ إِلَى قُلَّبِهِ وَأَخَذَ بِالْمُسَيِّرِ بِاِتِّجَاهِ مَكَان الْمَوْعِدِ قُرِبَ النّخلةُ لَمْ يَعِدْ يراها وَهُوَ يرى النُّجُومَ فِي كَبِد السَّمَاءِ وَهِيَ وَاضِحَةُ تَخْتَلِفُ كَأَنّهُ لِأُوِّلَ مرَّةُ يراها فَهِي وَاضِحَةُ وَجَلِيَّةُ لِقَدْ جَعَلَ التَّلَوُّثُ الضَّوْئِيُّ يَفْقِدُ جِمَالُ السَّمَاءِ وَنُجُومِهَا فِي الْعَاصِمَةِ لَمْ يَكِنْ يَعْرَف مَوَاقِعُ النُّجُومِ وَلَيْسَ لَهُ دِرَايَةُ بِنَجْمَةِ قُطْب الشّمَالِ وَبنَات نَعْش وَالثُّرَيَّا وَالْعَقْرَبَ وَكُلُّ مَا يَعْرُفَهُ الْبَدْوُمِنْ خِلَاَل مُسَيِّرِهِمْ بِالصَّحْرَاءِ لَيْلًا وَكَيْفَ يَتَمَ الْاِسْتِدْلَاَلُ بِهَا وَأَخَّرَ الْمَطَافُ فَقَدْ مَسَارَّهُ وَبَدَأَ يَسِيرُ بِاِتِّجَاهَاتٍ خَاطِئَةٍ وَمِمَّا زَادَ الطِّينُ بَلَّةٌ هِي أَصْوَاتُ الثَّعَالِبِ وَاِبْنُ آوَى وَحَيَوَانَاتُ تَتَّخِذَ مِنَ اللَّيْلِ مَرْتَعَا لِهَا لَمْ يَعْرُفْ هَلْ هِي ذِئَابُ أَمْ شئ غَيْرهُ لَمْ يَعِدْ يُفَرَّقْ بَيْنُهَا مَنِ الْخُوَّفَ وَهُوَ يُدَوِّرُ ليرى أَيُّ بَصيص لِلْأَمَلِ عَسَى يرى اِتِّجَاه أَضْوَاء الْمَدِينَةِ وَلَكِنَّ هَيْهَاتَ لِقَدْ مُنِعَتْ نَخِيلُ الْبَسَاتِينِ أَنْ يَصُلَّ الضَّوْءُ إِلَيْهِ لِكَيْ يَسْتَدِلَّ عَلَى مُوَقِّعُهُ, تَوَقُّفٍ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ جُهْدِ التَّفْكِيرِ وَالْخُوَّفِ فِي آنَ مَعَاً , اُحْسَ بِالْبُرْدِ فَجُمْعِ الْحَطَبِ مِنَ الشَّوْكِ الْيَابِسِ هُنَا وَهُنَاكَ لِيَشْعَلَ النَّارُ وَتَكُونُ دَليلَا لِمَنْ يراه مِنْ بِعِيدِ لَعَلَّ أحَدَ يراه كَيْ يَسْتَدِلَّ عَلَى مَكَانِهِ وَيَدِفْء نَفْسهُ من الْبُرْدِ , وَفِي الْجَانِبِ الْآخَر لِقَدْ عَادَ العرَّبنجَي إِلَى مَكَانِ النّخلةِ بِنَفْسُ الْمَوْعِدَ الْمُتَّفِقَ عَلَيهِ وَعَنْدَمَا تَأَخُّرِ الْأُسْتَاذِ عَنِ الْمَوْعِدِ كَثِيرًا خَافَ أَنْ يَدْخَلَ إِلَى بِعِيدٍ وَيُضَيِّعَ مُوَقِّعُهُ فَعَادَ أَدْرَاجُهُ إِلَى أَقُرُبِ قَرِيَّةٍ لِيَسْتَعْيُنَّ بِهُمْ عَلَى الْبَحْثِ عَنِ الْأُسْتَاذِ الَّذِي تَاهَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَعَنْدَمَا وُصَلٍ إِلَى الْقَرِيَّةِ وَقَال لِهُمْ الَّذِي جَرَّى هَبُّو لِلنَّجْدَةِ حَامِلِينَ مَعهُمْ الْمَشَاعِلَ وَوَصَّلُوا الى مَكَان النّخلةِ والْموُقَّعِ الْمُتَّفِقِ عَلَيهِ وَتَرَجَّلُ الجميع وَتُوَزِّعَ وَدَخِلُوا فِي الْبَرِّيَّةِ وَبَعْدَ مُسَيِّرِ طَوِيلِ لَاحَ لِهُمْ قَبَسَ نَارُ مِنْ بِعِيدِ وَلَمَّا اِقْتَرَبُوا مِنهُ أَخَذُّوا يُنَادُونَ بِصَوْتِ عَالِي أُسْتَاذِ يا أُسْتَاذٍ, سَمْعَ الأُسْتَاذِ أَصْوَات مِنْ بِعِيدِ تَنَادِيهُ أَيَقَنٍ أُنَّ النَّجْدَةُ قَدْ وَصَلْتَهُ فَأَجَابَهُمْ بِأَعْلَى صَوْتهُ أَنَا هُنَا وَوُصِّلَ الْجَمِيعُ أَلِيهَ وَمَشَاعِرُ الْفَرَحِ الْمُفْرِطِ وَحَمِدَوا اللَّهَ عَلَى سَلَاَمَتهُ.
أَيَقَنٌ الْأُسْتَاذ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمُّكُنَّ لَهُ أَنْ يُعَيِّشَ مُنْفَرِدَا بَعيدَا عَنِّ النَّاس فَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْعُرُ بِالسَّعَادَةِ عَنْدَمًا يَكْوُنَّ متعايش مَعَ الْمُحِيطِ وَالْمُجْتَمَعِ الَّذِي هُوَ حَوْلهُ , الْمُجْتَمَعَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَوَاصِر مُتَّصِلهُ بَعْضِهَا بِبَعْضُ وَأَنْ فَقُدَّتْ أَصُرَّةُ تَفَقُّد الْأَوَاصِرِ الاخرى نجَاحُهَا وَدَيْمومَتُهَا , أن كُلُّ مَبَادِئ الْمُجْتَمَعِ الْمُتَكامِلِ ولايمكن أَنْ يُعَيِّشَ مُجْتَمَعُ مُنْعَزِل فِي بَلَد وَاحِد دُونَ التَّعَامُلِ وَالتَّكَامُلِ هِي سَرَّ السَّعَادَةُ أَنْ تَكَوُّن مَعَ النَّاسِ وَتَتَفَاعَلُ مَعهُمْ فِي أحْزَانهُمْ وأفراحهم……….
بقلم :ـ مالك عبد القادر المهداوي
2017/2/15

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق